هذه الخلافات ظاهرة عالمية حقاً وإذا كان كذلك فما أسبابه؟ وكيف السبيل إلى الخلاص منه؟.
ولايحتاج المرء إلى طويل تأمل، لكي يتبين له على الفور أن العالم الإسلامي يجتاز في هذا العصر مرحلة من أشق مراحل تاريخه، فيما يتعلق بهذه القضية. فعلى المستوى العالمي، ودون شعوب العالم أجمع، تعاني الأمة الإسلامية على الخصوص قدراً هائلا ًًًمن المتناقضات، والمنازعات الداخلية التي تؤثر أعظم التأثير في سياستها الخارجية وعلاقتها بشعوب العالم، وتحدد صورة الإسلام والمسلمين على وجه غير مقبول في كثير من الأحيان، أمام الرأي العام العالمي.
صحيح أن العنف السياسي هو في صورة من صوره ظاهرة عالمية، وهذا مايقول به كثيرمن المسؤولين في العالم في تحليل هذه الظاهرة، ولكننا هنا أمام ضرب من العنف يُدََّعى له أنه يتم باسم الإسلام، مع أن الإسلام في الحقيقة دين السلام والتعاطف بين المسلمين الذين تجمع بينهم أخوة خاصة هي أخوة العقيدة التي ترتفع فوق كل روابط الدم والولاء الاجتماعي.
لقد دعا الإسلام إلى نبذ الخلاف بين الناس والتواصي بالحق والخير فيهم دفعاً للخلاف وتأليفاً للقلوب، لذلك أثنى اللَّه على نبيه الكريم، ووصفه باللين في خطاب قومه، فقال تعالى: {فبما رحمة من اللَّه لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك }. (سورة آل عمران، من الآية: 159). وذلك نصٌّ بيّنًٌ على حسن خلقه في دعوته للإسلام، بل إننا نجد أنه، عليه الصلاة والسلام، مأمور بذلك أمراً صريحاً في مثل قوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعُرْف وأعرض عن الجاهلين} (سورة الأعراف، الآية: 199).ومثل هذا المعنى كثير ، يتكرر في آيات أخرى عديدة، ولذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام ، > لاحلم أحب إلى اللَّه تعالى من حلم إمام ورفقه، ولاجهل أبغض إلى اللَّه تعالى من جهل إمام وخرقه<.
والرسول، عليه الصلاة والسلام، إمام العالمين، ولذلك كان أكثرهم حلماً، وأحسنهم خلقاً، وعلى الدعاة أن يهتدوا بهذا الهدي السماوي العظيم والنبإ الرباني الحكيم، وأن يكون رائدهم في الدعوة إلى الإسلام هو التواصي بالحق والصبر دائماً.كان الخلاف السياسي مصدر أساس من مصادر الفرقة بين المسلمين، أما ما عدا ذلك من الاختلاف في مسائل اجتهادية حول قضايا فقهيه، فلم يكن ذلك سبباًً لخلاف حقيقي بين المسلمين، فالثابت أن فقهاء المسلمين كانوا أوسع علماء المسلمين صدراً في إشاراتهم الخلافية بعضهم إلى البعض الآخر. وربما نشأ الخلاف في أصول العقيدة نفسها أو في مسائل نظرية ثم أخذت المذاهب تتمايز، والنظريات تتبلور والمقالات تنضج، وصار لكل فريق مذهبه المخصوص في الشرع، ومقالته المميزة في العقائد أي رؤيته الخاصة في الأصول.
في إطار هذا الاختلاف السياسي الذي استحال إلى اختلاف عقدي وتفرق مذهبي ثم انتهى إلى تمايز اجتماعي وثقافي وشعوبي، حاول كل فريق أن يؤكد هُويته الخاصة في مواجهة الفريق الآخر، وربما رأينا اجتهاداًً في اصطناع فروق تميزه عما سواه في جزيئات من الأحكام الفقهية، وهكذا تحولت الأمة الواحدة إلى مجموعة من الفرق ذات الهوُيات الجزئية المختلفة، وتجلى ذلك الاختلاف في الشعارات والطقوس، والأمكنة والرموز، والمراجع، والأسماء والأعلام.
من هنا صار الاختلاف عن الغير داخل الدين الواحد، تباعداً نسبياً عن الأصل الذي ينتمون جميعاً إلىه، وتمزيقاً لمعنى الأخوة الجامعة بين المسلمين، فبقدر ما باعد التعصب والتحزب بين فرقة، وأخرى، باعد، أيضاً، بين كثير من هذه الجماعات، وبين الأصل ذاته، فتعددت التأويلات التي تماهي بين مضمون النص وبين مضمون النظربة المذهبية الخاصة، وبذلك تدخل التاريخي المتعالي والسياسي العارض في المطلق، وأثرت أيديولوجيات المذاهب في قراءة النصوص، وكأنها تحاول أن تحل خطابها السياسي محل الخطاب الإلهي(2)، أو تتحدث باسمه، لأن كل واحد كان يأبى من النص إلا ما يريد أن يراه تعبيراً عن أهواء خاصة بأهل مذهبه. وهكذا اختلطت السياسة بالفكر الديني واختلفت مناهج التفسير باختلاف المذاهب والقراءات الشخصية، أصول الفهم السليم للنصوص الدينية وهذا مادعا أحد اللاهوتيين في الإنجيل: "كل امرىء يطلب عقائده في هذا الكتاب المقدس وكل امرىء يجد فيه على وجه الخصوص ما يطلبه.
ويبدو أن الجدل في ذلك سوف يستمر إلى مدى يعلمه اللَّه، مصداقاً لحديث النبوة في موضوع الفرق، ومع ذلك فإن استمرار هذا الاجتهاد والجدل المشروع خارج ثوابت المقاصد الشرعية لايعني استمرار الخلاف بين المسلمين، فالقرآن حمال أوجه، وهذه الأوجه إنما تتحقق بالقراءات ذات الدلالات المتفتحة على العصر، وفقاً لمستويات الاستقبال، وحاجة المتلقي، وفي هذا ما فيه من التعبير عن حيوية هذا الدين، وجدارته بالبقاء هادياً لكل الناس.
وسوف تظل الاجتهادات المختلفة علامة حية على بقاء هذا الدين، وشرطاً ضرورياً لاستمراره، فذلك هو حق القراءة الذي يمنحه الإسلام لكل من يهتدي بهديه إذ يستقبل النص بقلبه، كأنه يراه وجهاً لوجه، بلا وسيط، ويجاهد بالرغم من نسبيته الزمانية والمكانية للدخول في عالم المطلق